{}{ أضواء على المسجد الحرام}{}
المسجد الحرام هو ذلك البيت العظيم الذي أسس على التقوى من أول يوم، والذي جعله الله مثابة للناس وأمناً، وطهره للطائفين والعاكفين والركع السجود، والذي كان
ولا يزال مهوى القلوب وملتقى الشعوب ومنار الهدى والرشاد.
وهو ذلك المسجد الخالد الذي أفنى جداره القرون، وطوى ركنه الليالي والعصور، والذي حماه الله من بغي الطاغين وطغيان الباغين عبر العصور والقرون، وسيظل يحميه ويرعاه ويهيئ له من يدافعون عن حرمه وحماه جيلاً بعد جيل، وقبيلاً في إثر قبيل إلى أن تبدل الأرض غير الأرض ويقوم الناس لرب العالمين.
وتختلف الروايات حول بناء هذا البيت العتيق، حتى إن بعض الرواة يرجعون به إلى الزمن الغابر البعيد قبل أن يخلق آدم أبو البشر، فيقولون: إن الملائكة عليهم السلام هم الذين تولوا بناءه، ويذهب آخرون: إلى أن آدم عليه السلام هو أول من بناه، ويروون في ذلك حديثاً يتصل سنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا لي بيتاً، فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب، فلما بناه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت. ثم تناسخت القرون حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل على أن هاتين الروايتين أعني بناء الملائكة وبناء آدم للبيت موضع خلاف بين العلماء، والقول الراجح: أنهما غير ثابتتين، وأنهما على فرض صحتهما ليستا بناء كاملاً للبيت وإنما هو مجرد تأسيس.
ولكن الذي لا شك فيه: أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هما اللذان رفعا قواعد البيت الحرام، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127] * ((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:128]
كيف انتقل إسماعيل إلى وادي مكة؟
يكاد يجمع المؤرخون على أن إبراهيم عليه السلام نشأ في بلاد العراق بين قوم يتخذون الأصنام آلهة من دون الله، وقد دعاهم إبراهيم إلى توحيد الله وعبادته وعاش الخليل صلوات الله وسلامه عليه فترة طويلة معهم دون أن يرزقه الله بولد من زوجته سارة فحملتها شفقتها على زوجها إبراهيم وحبها له على أن تهب له جاريتها (هاجر) وقالت له: " إني حرمت من الولد فعسى الله أن يرزقك منها غلاماً تقر به عينك "
وقد حقق الله آمال إبراهيم وزوجته سارة فحملت هاجر وولدت إسماعيل وكان أبوه إبراهيم في السادسة والثمانين من عمره.. ولحكمة جليلة أرادها الله عز وجل أذن الله إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها إلى وادي مكة وكان مجدباً لا زرع فيه ولا ثمر، وألقى الله في نفسه السكينة والطمأنينة بأن الله سينبت لهما الفرج من الضيق ويسوق الخير إليهما من أيسر طريق، ويستجيب لدعائه ورجائه حيث قال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) (ابراهيم 36)
وقد بدأت البشائر على الفور فاستجاب الله دعاء خليله إبراهيم فانبثق الماء من تحت أقدام إسماعيل، وجاد الصخر الأصم بالماء العذب فكانت بئر زمزم وكان الحرم الآمن الذي تهوي إليه أفئدة الناس ويجبى إليه ثمرات كل شيء.
بنو جرهم والخزاعيون في مكة:
وكان بنو جرهم قد هاجروا من بلاد اليمن بعد أن انهدم سد مأرب واستقروا في واد قريب من مكة، فلما تفجر ماء زمزم لزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء فجاءوا إلى هاجر وقالوا لها: لو شئت كنا معك فآنسناك والماء ماؤك فكانوا معها حتى شب إسماعيل وتزوج منهم فكانت ذريته منهم هي العرب المستعربة.
ولما رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت كانت له ولأولاده السيادة والقيادة وكان أمر المسجد الحرام في أيديهم منذ أذن إبراهيم في الناس بالحج، وأصبح البيت الحرام مثابة للناس، ولكن الزمن الدوار قضى على بني إسماعيل بالتخلف والضعف فانتزع أخوالهم الجراهمة السلطة من أيديهم، وظلت السلطة في أيديهم قرابة ألف عام، ولكنهم طغوا وبغوا، واستحلوا حرمة البيت وظلموا من دخل مكة من الحجاج وغيرهم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها، وارتكبوا الآثام والمنكرات إلى جوار البيت المحرم، فأهلكهم الله بذنوبهم ولحق بهم الدمار والوبال فأخرجهم الخزاعيون من مكة، وأصبحوا كما قال شاعرهم:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى، نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليال والجدود العواثر
وكان الخزاعيون قد هاجروا من اليمن واستقروا في مكة إلى جوار الجراهمة، فلما رأوا ما حل بهم من فساد وضعف وانحلال انتهزوا هذه الفرصة واستولوا على النفوذ والسلطان، وقد ظلوا سادة مكة، وظل أمر المسجد الحرام في أيديهم زهاء مئتي سنة، ثم أدركهم داء الأمم وقلب الدهر لهم ظهر المجن، واستطاع زعيم قرشي من بني إسماعيل أن يحاربهم وينتصر عليهم ويعيد نفوذ أجداده القديم وسلطانهم، وهذا الزعيم هو قصي بن كلاب وهو الجد الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم..
قصي بن كلاب وتجميع قريش حول الكعبة:
ومنذ رجعت السلطة إلى قصي بدأ عهد جديد من النمو والازدهار لبني إسماعيل بعد أن ظلوا أمداً طويلاً في ضعف وركود يكاد يشبه الموت، وكان أول ما فعله قصي أن جمع أفراد قريش المبعثرين في نواح متعددة إلى وادي مكة وجعل لكل بطن منهم حياً خاصاً على مقربة من الكعبة فاستحق بذلك لقب "المجمع".
وكان الناس بعد ذلك لا يجرؤون على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسها ولكن قصياً أراد بتجميع قريش حولها أن يجعلهم حماة لها يتعهدونها بالصيانة ويدفعون عنها الخطر، وقد توارث أبناء قصي هذا المجد والسلطان حتى جاء من أحفاده عبد المطلب بن هاشم وهو الجد الأول لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
تحية بعبق الياسمين::